ذكريات ليالي الحلمية والشهد والدموع.. إرث أسامة أنور عكاشة في ذكرى رحيله

ذكريات ليالي الحلمية والشهد والدموع.. إرث أسامة أنور عكاشة في ذكرى رحيله

في الثامن والعشرين من مايو، نحتفل بذكرى رحيل الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة، الذي يُعتبر من أبرز الكنوز الفنية والثقافية في مصر والعالم العربي، فقد تركت أعماله بصمة لا تُنسى في تاريخ الدراما المصرية والعربية.

وُلد أسامة أنور عكاشة في 27 يوليو 1941، وتوفيت والدته وهو في السابعة من عمره، مما دفعه للانزواء بين كتب والده التاجر، حيث احتوت على مجموعة متنوعة من الأدب والمعرفة، الأمر الذي ساهم في تشكيل وعيه مبكرًا، ورغم زواج والده مجددًا، إلا أنه وجد في زوجة أبيه حنانًا عوّضته عن أمه، وهذا ما تجلى لاحقًا في أعماله التي قدّمت صورة مغايرة لزوجة الأب.

كتب أول قصة له في مرحلة الطفولة بعنوان “المغامرة العجيبة”، وأرسلها إلى برنامجه المفضل “بابا شارو”، حيث سمعها الإذاعي محمد محمود شعبان قائلًا: “من تأليف أسامة أنور عكاشة”، وكانت تلك لحظة فارقة في حياته

انتقل بعد ذلك إلى القاهرة، المدينة التي أحبها دون أن يراها، والتحق بكلية الآداب – قسم الدراسات الاجتماعية والنفسية بجامعة عين شمس، وتخرج في عام 1962.

بدأت رحلته الأدبية مع القصة القصيرة، لكنها لم تحقق انتشارًا كبيرًا في البداية، حتى قرأها الكاتب الكبير سليمان فياض، وأُعجب بها، فاختار منها قصة وقدمها للتلفزيون، ونصحه بالكتابة للدراما التلفزيونية، وتنبأ له بنجاح عظيم في هذا المجال.

كانت بداية أعماله الدرامية البارزة سباعية “الإنسان والحقيقة”، التي أخرجها فخر الدين صلاح، وبعد نصيحة من أسامة بخوض تجربة كتابة السيناريو، وتبعها بمجموعة من الأعمال التي جمعته بفخر الدين حتى رحيله في 1985، وكان آخرها “وأدرك شهريار الصباح”.

وجاء التحول الجذري في مسيرته عام 1982، حيث استقال من عمله الحكومي وتفرغ بالكامل للكتابة، ليُطلق في العام التالي مسلسل “الشهد والدموع”، الذي رسّخ اسمه لدى الجمهور، وتوالت بعدها أعماله التي شكلت علامات بارزة في الدراما المصرية، وأسرت كتاباته قلوب الجمهور، حتى أصبح اسمه وحده كفيلًا بضمان نجاح أي عمل.

ومن أبرز أعماله التلفزيونية مسلسل “ليالي الحلمية”، الذي أرّخ لتحولات المجتمع المصري سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، وناقش قضايا عمالية وشعبية في بناء درامي متماسك، جعله أحد أهم الأعمال التي لا تزال محفورة في ذاكرة المشاهد.

تميز عكاشة بأسلوبه الفريد في كتابة السيناريو، حيث لم يكتف بكتابة الحوار فقط، بل كان يُحدد الملابس والانفعالات، وحتى طريقة الأداء لكل شخصية، مما يدل على إتقانه لأدق تفاصيل العمل الفني، وكان يشارك في ترشيح الممثلين، لتكتمل رؤيته الفنية.

رأى في الناس البسطاء والطبقات الكادحة عمقًا فلسفيًا فطريًا، فجعلهم لسان حاله في كثير من أعماله، بينما انتقد في الوقت ذاته انفصال المثقف عن المجتمع، كما ظهر في مسلسل “أبو العلا البشري”، وكان مؤمنًا بأن القوة تكمن في تماسك الجماعة الاجتماعية، وإذا اتحدوا على هدف مشترك تمكنوا من تحقيقه وتجاوز المستحيل، كما حدث في مسلسل “الراية البيضاء”.

كوّن أسامة أنور عكاشة، عبر مسيرته، عددًا من الثنائيات الفنية الناجحة مع كبار المخرجين، من أبرزها تعاونه الطويل مع المخرج إسماعيل عبد الحافظ، حيث قدّما معًا 13 عملًا، من بينها “الشهد والدموع” و”ليالي الحلمية”، كما تعاون مع محمد فاضل في “الراية البيضا” و”رحلة السيد أبو العلا البشري”، وواصل بحثه عن الهوية المصرية مع جمال عبدالحميد في “أرابيسك” و”زيزينيا”.

لم تكن الدراما التلفزيونية وحدها ساحة إبداعه، فقد كتب أيضًا للسينما، رغم أن التأثير الأكبر لأعماله كان في التلفزيون؛ نظرًا لاتساع مساحة العمل التلفزيوني مقارنة بالسينما، ولأن القضايا التي كان يطرحها عكاشة تتسم بالعمق والضخامة، فقد كانت أنسب لجمهور التلفزيون منها لجمهور السينما.

من أبرز أفلامه: “كتيبة الإعدام” و”دماء على الأسفلت”، كما خاض تجربة المسرح، وكتب مسرحيات مثل “الناس اللي في التالت” و”ولاد اللذين”، التي عكست اهتمامه بالقضايا الاجتماعية

وفي المجال الأدبي، قدّم روايات وقصصًا قصيرة تحمل بعدًا إنسانيًا عميقًا، منها: رواية “أحلام في برج بابل”، والمجموعة القصصية “مقاطع من أغنية قديمة”، وكانت رواية “سوناتا لتشرين” آخر ما كتب قبل وفاته

رغم تشابه التيمات في بعض أعماله، إلا أن كل عمل كان يحمل طابعًا فريدًا واختلافًا جوهريًا، بسبب عمق الشخصيات وتفاصيلها، حيث أجاد عكاشة رسم الشخصيات المتنوعة بمهارة قلّ نظيرها، وهو ما جعل أعماله تفيض بالحياة وتلامس الجمهور عن قرب، ولأنه بالأصل روائي وكاتب، فقد صنع جسرًا موصولًا بين الروائي والسيناريست، وابتكر ما يُسمى بـ”الأدب التلفزيوني”.

خاض العديد من المعارك مع الرقابة بسبب جرأته في تناول قضايا حساسة، لكنه تمسّك برؤيته دائمًا، مؤمنًا بأن الدراما يجب أن تُعبّر عن الواقع وتواجهه.

ظل أسامة أنور عكاشة حتى رحيله يوم الجمعة 28 مايو 2010 رمزًا للأصالة والجرأة والصدق الفني، وترك إرثًا لا يزال يشكّل مدرسة قائمة بذاتها في الدراما العربية
.